يستغرب الشهيد علي عبدالمغني (يلعب الدور الممثل محمد الهتار) حدوث مصالحة بين الجمهوريين والملكيين، وعندما يسأل القاضي محمد محمود الزبيري (يلعب الدور الممثل سمير الأشبط) عن صحة الأمر، يجيبه الزبيري أن المصالحة حدثت فعلاً، و هدفت إلى حقن دماء اليمنيين.
حوار عبدالمغني والزبيري، وهما من شهداء ثورة 26 سبتم بر1962، يدور في البرزخ، الإطار المكاني لمسرحية “المرحوم يعيش” التي انطلقت أولى عروضها، مساء الخميس الماضي، على خشبة سينما منتزه التعاون، في مدينة تعز، بشطرها التابع لما تسمى الحكومة الشرعية.
الشهداء كسلعة
استعادة شهداء الثورات فكرة رائجة في الأدب العربي والعالمي؛ تستخدم عادة للتعبير عما آلت إليه الثورات التي ت رفع شعار تحرير الإنسان، ثم تنتهي باستعباده وانتهاك كرامته، على غرار ما نجد في مسرحية “كأسك يا وطن”، رائعة الكاتب والشاعر السوري الراحل محمد الماغوط .
ب خلاف غوار الطوشة في “كأسك يا وطن”، الذي يتلقى وهو في حالة سُكر وانهزام، اتصالاً من والده الشهيد ؛ تجري أحداث “المرحوم يعيش” في عالم الموتى، حصراً في المكان المعروف في الفكر الديني ب اسم البرزخ، وهو محطة تقع ما بين الحياة الدنيا والآخرة، وفيها يجري فرز الموتى ما بين ذاهب إلى الجنة أو إلى ا لنار، حسب الميثولوجيا الدينية.
كتب “المرحوم يعيش” سلمان الحميدي، وعالج النص فهد القرني الذي يلعب دور البطولة في المسرحية المؤلفة من فصل واحد عبارة عن برزخ، في إسقاط واضح على وضع مدينة تعز الممزقة أوصالها ما بين حكومة صنعاء الموصوفة بالانقلابية، وحكومة عدن المعترف بها دولياً، من جهة، وما بين الحياة والموت بسبب فظاعات الحصار المستمر منذ سنوات، من جهة ثانية.
توازياً مع توظيفها البرزخ للتعبير عن معاناة السكان المحاصرين، تقدم المسرحية ما يشبه النقد الذاتي والمكاشفة بهدف معرفة حقيقة انتكاسات الجمهورية منذ ١٩٧٠ حتى انقلاب ٢١ سبتمبر ٢٠١٤، بيد أنها في محاولتها هذه تجتزئ الحقيقة، وتتماهى مع الخطاب السياسي والإعلامي السائد، فحياة ما قبل البرزخ بثاراتها وانقساماتها ومغالطاتها، تستعاد مسرحياً من دون معالجة واعية.
صحيح أن المسرحية وجهت نقداً لاذعاً للانقسامات الداخلية التي أفضت إلى إعادة ما سمته على لسان مكرد (فهد القرني)، تدوير الإمامة، لكنها تعاطت مع الإمامة خارج سياقها التاريخي والسياسي. فما تعتبره المسرحية عودة معاصرة للإمامة، يقدم في صورة تبسيطية تبتعد كثيراً عن حقيقة صعود التيار الشيعي في اليمن، كما في العراق ولبنان وسوريا، وهو صعود يلبي حاجة برانية أكثر منه انبعاثاً للإمامة في ذاتها.
ولعل في فشل الأيديولوجيات العلمانية في الوطن العربي، ما يسوغ هذا الصعود اللافت الذي صار أيضاً مطلباً دولياً في ظل السجل العنفي المنسوب للإسلام السني، ونموذجه الأبرز هجمات 11 سبتمبر 2001.
لكن كاتبي المسرحية غضا الطرف عن التحالفات السياسية التي تتخذ الإسلام الشيعي قناعاً، حتى وهما يشاهدان ممثلي هذه التحالفات من بعثيين وناصريين ويساريين، يشاركون في حكومات صنعاء وبيروت ودمشق وبغداد.
مفتاح “الزنبيل” الذي لا يفتح
حالما يرفع ستار العرض يظهر على الخشبة شخصان أحدهما (الممثل خالد العبسي) قاعداً يتعبد في محاولة متأخرة لإدراك التوبة، والثاني (الممثل هيثم المقبلي) واقفاً أمام باب الجنة محاولاً فتحه بمفتاح أعطي له أثناء جهاده الدنيوي من قبل من يسمون الحوثيين. لكن الباب لا يُفتح طوال فترة العرض.
يشكل المفتاح والسوار جزءاً من الاكسسوار الجهادي الإسلامي بنسخته الشيعية، ويعد رمزاً لتضليل لا يقتصر على الإسلام فحسب، بل يشمل الأيديولوجيات الدينية والعلمانية على السواء. فالتضحية بالنفس من أجل طائفة دينية أو جماعة سياسية، تقابل بتقديس، وترفع إلى مستوى الشهادة برموزها وأيقوناتها المتعددة الثقافات.
وفي مختلف الحالات، يبدو الشهيد مجرد سلعة سياسية ودينية في حياته كما بعد مماته. حامل المفتاح في مسرحية “المرحوم يعيش”، هو “زنبيل” جرى التغرير به، أي تضليله، والزنبيل تسمية شعبية ابتكرها معارضو انقلاب 21 سبتمبر 2014، ويقصد به الشخص المقاتل و/أو المناصر للانقلاب من غير المتحدرين من سلالة نبي الإسلام محمد.
لكن المفارقة أن المسرحية ذاتها قدمت مفاتيح زائفة، فبدلاً من أن تسهم في كشف مجاهل انقلاب 21 سبتمبر 2014، قدمت للجمهور رواية منقوصة باختزالها قوى الانقلاب في مجموعة صغيرة تدعى الحوثيين، وكأن الجيش اليمني، وهو جيش حزبي بامتياز، بما فيه الألوية العسكرية الجنوبية العاملة تحت سلطة الانقلاب، مجرد زنبيل وضحية اختراق، كما حاولت المسرحية إيهام المشاهد.
علاوة على وظيفته الجمالية، يعد المسرح أداة تنوير وتحرير للإنسان من الأوهام التي تعوق حياته وتقدمه. كان بإمكان مسرحية “المرحوم يعيش” كسر الصورة الأسطورية لمفهوم البرزخ، جاعلة منه حالة يقظة أخلاقية ووطنية تدفع باتجاه تنوير الجمهور، ومساعدته في فهم واقعه، بما من شأنه الحد من المعاناة الإنسانية التي يعانيها ملايين اليمنيين.
لكن ما حصل هو أن المسرحية وقعت في مطب إعادة إنتاج أيديولوجيا الزنابيل التي تنتقدها. ف إعادة تدوير الإمامة على منوال تدوير القمامة، كما تقول المسرحية، هي أسطورة سياسية استجرها الإعلام، وها هي تصل إلى خشبة المسرح.
إن ما يميز المسرح السياسي كسره التابوهات، وتجاوزه للخطوط الحُمر، لا أن يعيد تقديم الواقع الزائف بضلالاته على ما فعلت مسرحية “المرحوم يعيش”، التي وإن حاولت إعادة الاعتبار للمرأة من خلال الشهيدة تحفة الشرعبية (تلعب الدور الممثلة رندا الحمادي)، إلا أنها قدمت صورة سلبية عن ج يل السوشيال ميديا (يلعب الدور الممثل محمد هلا ل)، فهذا الجيل الذي فجر ثورات الربيع العربي، هو في نظر المسرحية، جيل ملحد أ و صعلوك.
لم يكتفِ القائمون على المسرحية بإخفاء حقيقة انقلاب٢١ سبتمبر 2014، وأحزابه الفاعلة، بل منعوا الصحفيين من التقاط صور فوتوغرافية للعرض، بمزاعم أن حق بث العرض مباع لطرف ثالث، لكنهم سمحوا لأنفسهم، في المقابل، بتصوير الجمهور صوتاً وصورة، من دون أخذ إذنه.